بقلم مدير برنامج الندوة ومستشار التدريب والتعليم المهني والتقني أحمد العشماوي.

تحليل لحالة العرض والطلب على المهارات

 يعتبر المجتمع في العالم العربي مجتمعاً فتيّاً، إذ يبلغ حوالي ثلث العرب أقل من 15 عاماً وثلثهم الآخر ما بين15 و29 عاماً. ووفقاً لبيانات مبادرة منظمة التمويل الدولية الإقليمية بعنوان "التعليم من أجل التوظيف"، فإن 25 % من الشباب العربي عاطلون عن العمل، وهي أعلى نسبة في العالم، وتكلف هذه البطالة وانعدام الإنتاجية المنطقة ما بين 40 إلى 50 مليار دولار سنوياً بسبب الفرص المهدورة، وهي أموال كان بالإمكان إنفاقها على إصلاح الوضع القائم الصعب والدقيق. علاوة على ذلك، ففي معظم الدول العربية، تبلغ البطالة في صفوف النساء ضعفي نسبة بطالة الذكور إن لم يكن أعلى، مما يلقي الضوء على تحديات إضافية تقف عائقاً أمام تنمية المرأة.

وفي معظم دول المنطقة، ترتفع نسبة البطالة طردياً مع ارتفاع نسبة التعليم، مما يخيّب آمال واضعي الخطط لقطاع التعليم والطلبة على حد سواء، فهذا يعني أن العملية برمتها منفصلة عن الواقع بشكل أكبر، وخصوصاً حين يقرر واضعو الخطط أين يستثمرون من أجل الإصلاح وما هي المجالات التي يتعين على الطلبة متابعة تعليمهم فيها من أجل فرص أفضل في مسيرتهم المهنية. في بعض الدول العربية، يشير تحليل التحصيل العلمي للعاطلين عن العمل إلى أن واحداً من أصل أربعة حاصل على تعليم جامعي، ويعيش 26 % منهم في المدن الحضرية وأكمل 44 % من هؤلاء تعليمهم الجامعي. وبشكل عام، يواجه التعليم تحديات عديدة في المنطقة، ولكن في معظم دول المنطقة فإن قطاع التدريب والتعليم المهني والتقني هو الذي يواجه التحديات الأعظم، وذلك لسبب بسيط وهو أنه يخدم أكبر عدد من الطلبة والخريجين بالمقارنة مع الفرع الأكاديمي.

ذكرت العديد من التقارير والخطط الاستراتيجية والدراسات أن نقص المهارات الفنية التي تؤثر على قابلية التوظيف لدى القوى العاملة يشكل عائقاً كبيراً ويحد من التنمية الاقتصادية وتحسين التنافسية العالمية في معظم دول المنطقة. وتجادل هذه التقارير تحديداً أن هناك حاجة ماسة لتغيير العقلية التي تعتقد أن التدريب والتعليم المهني والتقني هما أداة هامشية للتقليل من الأثر الاجتماعي للمتسربين من المدارس وذوي الأداء الضعيف حتى تنظر إلى هذا الفرع كأداة لجعل جانب العرض في العمل متناسباً مع طلبات القطاع من العمال المهرة المطلوبين لتيسير التنمية الاقتصادية المستدامة.

 إن سوء أداء قطاع التدريب والتعليم المهني والتقني بشكل عام والفجوات بين المهارات من جهة والمطلوب في سوق العمل من جهة أخرى ما هم إلا نتائج ممارسات متجذرة في النظام أو نتجت عن غياب بعض جوانب الممارسات الحسنة التي أثبتت نجاعتها في بعض الأقاليم في إنشاء بيئة تعلّم قائمة على الطلب. وتفتقر معظم أنظمة التدريب والتعليم المهني والتقني في المنطقة إلى النوعية المطلوبة والارتباط المطلوب بسوق العمل وتفشل في خلق قوى عاملة تنافسية.

 وفي ظل المنافسة العالمية المتنامية، والتغيرات الديمغرافية التي بدأت تظهر، والتقدم التكنولوجي المتسارع، والعوامل السياسية في المنطقة التي تشهد انتفاضات شبابية، فإن قضية الفجوة بين المهارات وسوق العمل أصبحت في واجهة الجدل السياسي في معظم الدول العربية. وهذا التنافر بين المهارات ومتطلبات سوق العمل لا يقتصر فقط على نقصها، وإنما يشير أيضاً إلى حالة يكون فيها الخريجون يتمتعون بمؤهلات ومعرفة ومهارات تفوق متطلبات الوظيفة في بعض الأحيان، فقد تعاني بعض القطاعات من النقص، بينما تواجه أخرى فائضاً في التعليم الذي يفوق الحاجة كما وضحنا سابقاً. كلما استغرقت هذه الفجوة وقتاً لردمها، فإنها تفرض تكاليف حقيقية على الأفراد والمؤسسات والمجتمعات.

 ونظراً لأهمية وجود المهارات المناسبة للوظائف وأهمية النظر في تبعثر المعلومات حول هذه الفجوة، تقدم الأقسام الفرعية التالية نظرة معمقة لصانعي القرار على مستوى الإقليم والممارسين حول أهم الأسباب التي إما تساهم في خلق هذا التنافر بين العرض والطلب من ناحية المهارات أو تتسبب في غيابها كلياً في النظام، مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين العرض والطلب.

الانخراط الضعيف من جانب أرباب العمل

في معظم الدول العربية، يؤكد جميع أصحاب المصالح على أهمية تقوية العلاقة بين التعليم والمؤسسات التدريبية وواضعي الخطط الذين يمثلون جانب العرض من جهة وشركائهم من جانب الطلب الممثلين بالشركاء الاجتماعيين وخصوصاً أرباب العمل من القطاعين العام والخاص. في معظم هذه الدول، فإن الرابط بين هذين الجانبين ضعيف، وفي أحسن الأحوال فهو عشوائي ولا يعد عملية مؤسسية واضحة، حيث تبادر بعض مؤسسات التدريب والتعليم المهني والتقني بالتعاون مع بعض أرباب العمل لإنشاء لجان مشتركة أو عقد اجتماعات لمناقشة حاجات أصحاب العمل. كما قد يتعزز هذا الرابط عندما تنفذ مراكز التدريب المهني برامج مبنية على حاجات العمل أو استقبال المتدربين في منشآت أصحاب العمل، بيد أنه وفي هذه المرحلة المتأخرة من دراسة الطالب في مركز التدريب المهني، تكون هذه البرامج قد صُممت وطُورت بمعزل عن أرباب العمل. علاوة على ذلك، قد يطلب أرباب عمل ذوو وزن وثقل كبيرين من كبرى مؤسسات التدريب والتعليم المهني والتقني أن يقوموا بتطوير برامج مشتركة في حال أدركت الشركة أن هناك نقصاً حاداً في مهارة تلزم مهنة أو وظيفة معينة. بيد أن ذلك لا يعد ممارسةً منتشرةً، نظراً لأن معظم الأعمال (75 إلى 90 %) في المنطقة هي مؤسسات صغيرة أو غير رسمية وتنقصها الوسائل والوعي لاتخاذ مثل هذه المبادرات.

 في هذه الدول، يبدو أن هناك أزمة ثقة مستمرة بين الجهتين، حيث تكاد تكون مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني (وخصوصاً الموظفين المسؤولين عن تطوير المنهاج) أكاديمية إلى حد كبير ويشعرون بأنهم ليسوا بحاجة للخروج من عزلتهم في منشآت مؤسساتهم أو الوزارة للحصول على معرفة مغايرة. وفي المقابل، فقد العديد من أرباب العمل ثقتهم بجودة مخرجات مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني حتى أصبحوا غير مهتمين بها، ولا يرغبون بهدر الوقت في الانخراط بتعاون مثمر معهم. ومن أجل معالجة هذا التنافر بين المهارات وسوق العمل وكسر هذه الحلقة المفرغة من الترابط الضعيف بينهما والجودة المتدنية والانخراط المتدني، فقد تبنت بعض الدول خيارات مختلفة مثل توسيع التعلم المبني على حاجات العمل بواسطة الانخراط الواسع لأرباب العمل في كل المراحل ابتداءً من التخطيط إلى تدريب معلمي المدارس وليس الطلبة وحسب على اتجاهات القطاعات. وأسسّت دول أخرى مراكز تُعلّم مهارات محددة في قطاعات معينة، وتلعب هذه دور الرابط المؤسسي بين مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني وأرباب العمل، وتحدد المعايير وتطور المؤهلات وتقوم بإجراء البحث في القطاعات وتقييم الحاجات. ويذكر أن النماذج الناجحة هي التي أعطت دفة القيادة لأرباب العمل في الاتجاه والحوكمة. ولدى مصر نموذج ناشئ غير مكتمل التطور في الشراكات بين الشركات ومراكز التدريب والتعليم المهني والتقني. 

غياب النظم الوطنية الشاملة والناجحة للمعايير الوظيفية

قد نجد في بعض دول المنطقة جوانب محدودة لضمان الجودة من خلال عمل مؤسسات متخصصة، ولكننا لا نجد نظاماً وطنياً شاملاً للمعايير الوظيفية الذي يمكن لمراكز التدريب والتعليم المهني والتقني أن تستخدمه عند تطوير برامجها أو يمكن لأرباب العمل الرجوع إليه في تقييم حاجاتهم واتخاذ قرارات التوظيف. وعلى الرغم من تطوير المعايير الوظيفية العربية قبل حوالي عقد من الزمان، فإن دول قليلة جداً مثل الأردن بادرت لاستخدام وتبني معاييرها الخاصة. كما قامت دول قليلة مثل الإمارات العربية المتحدة بالبدء الفعلي والجدي في عملية وضع إطار عمل مهني وطني ووضع مستويات ومعايير وظيفية تُستخدم جميعها عند تطوير المناهج. وحتى في ظل كل هذه الجهود، فإنها لم تفلح في مساعدة أرباب العمل ومراكز التدريب والتعليم المهني والتقني على التحدث باللغة ذاتها عند محاولة ردم الفجوة بين جانبي العرض والطلب من ناحية المهارات بسبب عدم وجود معايير مشتركة. علاوة على ذلك، فقلما يُدعى أرباب العمل للمشاركة في وضع البرامج القائمة والمؤهلات بحسب طلباتهم.

 أما في أقاليم أخرى في العالم، فقد بدأت العديد من الدول التي قامت بوضع أطر عمل وطنية للمؤهلات أو طوّرت أوصاف وظيفية  هذه العملية بالتركيز على قطاعات رئيسة منحتها الأولوية وبوجود تعاون وثيق ومشاركة واسعة من أرباب العمل من خلال جهات أو اتحادات ناجزة لأرباب العمل. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد يكون هذا الخيار نهجاً مجدياً وعملياً حيث تتمتع معظم الدول بشبكات قوية من اتحادات القطاعات وروابط أصحاب العمل مثل المغرب وتونس يمكن الاستفادة منها. كما تبحث دول في المنطقة مثل ليبيا والسودان حالياً في أولوية القطاعات غير النفطية التي ينبغي التركيز عليها في التنمية الاقتصادية المستقبلية وخلق الوظائف، الأمر الذي يمكن له أن ييسر هذه العملية مع الإقرار والتأكيد على أنها ليست مهمة سهلة.

 وإلى جانب العمل على خلق نظام شامل لضمان الجودة والمعايير الوظيفية، فسوف تحتاج المنطقة إلى النظر في عملية تطوير المناهج وتدريب المعلمين والتفاعل مع أصحاب العمل لخلق التوازن ومزيج صحي من المهارات العملية والنظرية وبين التخصص المحدد والمهارات العامة المتعلقة بقابلية التوظيف لدى الطلبة حتى يكون لديهم خيارات أوسع عند التخرج. وفي مسوحات أجريت مؤخراً في المنطقة، تبين أن غالبية أصحاب العمل يعتقدون أن خريجي مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني عانوا من ضعف في مهاراتهم العملية في كل الوظائف، ولم يكن أرباب العمل بشكل عام راضين عن المهارات الفنية المكتسبة خصوصاً من ناحية مواكبة التطور التكنولوجي الحاصل في القطاع. 

معلومات غير موثوقة وغير مستغّلة بالشكل الكافي حول سوق العمل

تقوم وزارات العمل في معظم دول المنطقة بإجراء مسوح دورية حول القوى العاملة، إلا أنه من غير الواضح إلى أي درجة يستفيد قطاع التعليم والتدريب من نتائج وتحليل هذه المسوح التي تُنشر بعد سنوات قليلة من إجرائها في تخطيطه لمحتوى برامجه الهادفة إلى تلبية حاجات السوق.

علاوة على ذلك، فمن دون وجود وحدة أو هيئة مختصة بمعلومات سوق العمل في معظم هذه الدول، يصبح من الصعب جداً محاولة التنبؤ بالاتجاهات المتعلقة بالمهارات التي سيتزايد عليها الطلب في المستقبل، وهذا هو الحال حتى في بعض أكثر الدول تقدماً، 

فما بالنا بالدول النامية مثل هذه المنطقة التي لا يزال القطاع الخاص فيها ناشئاً ويحتاج إلى فهم أهمية التعاون ومشاركة المعلومات مع الحكومة من أجل التقليل من التنافر بين المهارات الموجودة وحاجات سوق العمل. وتشهد المنطقة أنواعاً مختلفة من حالات التنافر بين المهارات المتوفرة وسوق العمل، والتي نجمت عن غياب المعلومات الموثوقة والمتخصصة حول سوق العمل التي يفترض أن يتم تحليلها واستخدامها بطريقة سليمة. وبحسب النقاشات مع أصحاب العمل وغيرهم من أصحاب المصالح، فإن المنطقة تواجه نوعين مترابطين ومتناقضين في آن من التنافر، فالنوع الأول هو ذاك المتعلق بالنقص الواضح في العمال المهرة وشبه المهرة، كما تقدم في معظم الحالات مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني برامجاً متقادمةً لم يعد يطلبها أرباب العمل وتهمل الوظائف المطلوبة من قبل القطاعات الناشئة.

أما النوع الثاني، فهو عدد الخريجين المتعلمين بشكل يفوق الحاجة (ليس بالضرورة مهرة بشكل يفوق الحاجة) من فرع التعليم العالي الأكاديمي الذين درسوا برامجاً لا يوجد عليها طلب في سوق العمل، وذلك بسبب غياب الوعي بحاجات السوق، ومن ثم دخلوا في عداد العاطلين عن العمل أو حصلوا على وظائف لا تلبي طموحاتهم.

وفي حال تم تطوير نظام معلومات سوق العمل الذي يعمل بشكل جيد أو مرصد للتعليم والتوظيف، فلن يكون في متناول واضعي خطط التعليم تحليل سليم وحسب، وإنما سيوفر لمراكز التدريب والتعليم المهني والتقني الدعم اللازم لتطوير برامج تدريبية للموظفين وهم على رأس عملهم ودعم أرباب العمل في معالجة قضية التنافر على المدى القصير وتلبية حاجة ماسة لديهم. علاوة على ذلك، فإن معلومات سوق العمل مهمة أيضاً لمعالجة التنافر المرتبط بالتوزيع الجغرافي لمراكز التدريب والتعليم المهني والتقني، والتي من الأفضل أن تتوزع بحسب مواقع أصحاب العمل والكثافة السكانية.

خدمات ارشاد مهني مدى الحياة غير مكتملة أو مفعلة

إن أي دولة تفتقر إلى نظام ارشاد مهني جيد تساهم بالمحصلة في تعميق التنافر بين المهارات وسوق العمل ولكن بطريقة مكلفة جداً ومتعمدة. سوف يهدر المتعلمون من كل الأعمار وقتهم، ويستخدمون المال العام المنفق على برامج قد لا تناسبهم أو تدعمهم في الحصول على وظيفة، فهي ببساطة تخص وظائف لم تعد مطلوبة في سوق العمل. ومن المخرجات المتوقعة لهذه الحالة وجود أفراد عاطلين عن العمل لا يتمتعون بأي حافز، وخصوصاً من فئة الشباب والمرأة، ومؤسسات غير تنافسية تواجه صعوبات جمة في إيجاد المهارات المناسبة بالكميات المطلوبة وحكومات تتحمل أعباءً مادية كبيرة وكان بوسعها أن تستغل مواردها النادرة بطريقة أفضل.

وهناك أمثلة كثيرة من دول المنطقة على بلدان لديها موارد مالية محدودة، وكانت تستطيع أن تدير خدماتها التعلمية بطريقة أكثر فعالية من خلال استخدام أدوات مثل الإرشاد المهني المستمر مدى الحياة. في الوقت الحالي، تنتج الكثير من الفجوات بين المهارات وسوق العمل عن غياب الوعي من جانب المتعلمين بالدورات الدراسية المتاحة أو فرص التوظيف المتوفرة بعد التخرج. ويتضح ذلك في العديد من الدول في بعض القطاعات مثل الزراعة التي تعتبر أولوية اقتصادية وقطاعاً كبيراً للتوظيف، إلا أن عدد المدارس الزراعية التقنية محدود جداً بالمقارنة مع باقي أنواع المدارس بسبب قلة الإقبال عليها من قبل الطلبة والأهالي على حد سواء. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تم نصح الشباب حول العمل في الزراعة وفرص العمل المتوفرة فيها؟ علاوة على ذلك، يوجد تفاعل محدود بين النظام والباحثين عن عمل، وقلما ينصحهم حول الفرص المتوفرة لإعادة بناء المهارات والتدريب التحويلي على الرغم من أن هذا في العادة واحد من أهم مهمات التدريب الوطني ووكالات التوظيف. 

تعد خدمات الإرشاد المهني جزءاً أساسياً من التعلم المستمر مدى الحياة، وهناك طموح لجعلها متاحة باستمرار لترافق خيارات التعلم المستمر الأخرى، ويتطب ذلك نهجاً يخرج من إطار الرؤية قصيرة الأمد للمساعدة بقرارات تعليمية وتوظيفية آنية فقط لتشمل تطوير قدرة الناس على إدارة مسيرتهم المهنية طيلة حياتهم من خلال مساعدتهم في التخطيط للعمل واكتساب مهارات تزيد من قابلية التوظيف. يجب أن ينظر إلى الإرشاد المهني المستمر مدى الحياة على أنه نظام متناغم يلتقي به أصحاب مصالح متعددون يقوم كل منهم بدور ويكملون بعضهم البعض. وفي الوقت الذي يجدر بالحكومة أن تلعب دوراً رئيساً في قيادة هذه الأجندة، والحوكمة، والتواصل، والتشاور مع أصحاب المصالح، وتطوير السياسة، ووضع المعايير، وتطوير وتقديم الخدمات، بيد أنها لا يجب أن تكون المزود الوحيد حيث يشمل أصحاب المصالح الآخرين أرباب العمل ومملثيهم، والمؤسسات المنفردة، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات التطوعية والمجتمعية فكل جهة من هذه الجهات لديها ما تقدمه لتوفير خدمات الإرشاد المهني مدى الحياة.

 إن أحسن هذا النظام الأداء، فسوف يعالج قضايا المهارات من جذورها في المنطقة وقابلية التوظيف والتي تم التعبير عنها في الخطط المتنوعة ووثائق الاستراتيجيات الهادفة للتنمية المستدامة. ويمكن لهذا النظام أن يساعد صانعي السياسات على تحقيق عدد من أهداف السياسات المشتركة: 

  • استثمار كفؤ في التعليم والتدريب: يزيد الإرشاد حول التعليم والعمل نسب المشاركة في التعليم بعد المرحلة الإلزامية بما فيها التعليم المهني والتدريب أثناء العمل من خلال توفير المعلومات للشباب، ونصحهم حول الفرص والمهارات التي يحتاجها أصحاب العمل وآلية صنع القرار وكيفية تعبئة الطلبات. وبفضل الإرشاد المهني، ترتفع نسب إكمال التعليم والدورات التدريبية فيتحقق اتساق أفضل بين اهتمامات الأفراد وقدراتهم والفرص التعليمية مما يقلل من التكاليف والآثار السلبية المترتبة على التسرب المبكر.
  • كفاءة سوق العمل: يتحسن الأداء في العمل والحافزية، وترتفع نسب الاستمرار في العمل، ويقل الوقت المهدور في البحث عن عمل والبطالة، حيث يتحقق هذا الهدف من خلال تحسين الاتساق بين قدرات الأفراد واهتماماتهم وفرص العمل المتوفرة، ورفع الوعي باتجاهات التوظيف الحالية والمستقبلية وفرص التعليم بما فيها التوظيف الذاتي والريادة، وأخيراً من خلال التنقل الجغرافي والوظيفي.  
  • التعلم مدى الحياة: تيسير التنمية الذاتية وقابلية التوظيف للجميع من خلال الانخراط المستمر في التعليم والتدريب، ومساعدة الناس في إيجاد الطريق الأنسب لهم عبر مسيرات تعلم متنوعة ومرتبطة في آن، وتحديد مهاراتهم القابلة للنقل وتفعيل تجاربهم التعلمية الرسمية وغير الرسمية.
  • الاندماج الاجتماعي: دعم الاندماج التعليمي والاجتماعي والاقتصادي، وإعادة دمج جميع الأفراد والمجموعات وخصوصاً أولئك الذين يعانون من صعوبات في الوصول إلى المعلومات وفهمها حول التعليم والعمل، مما يؤدي إلى الاندماج الاجتماعي والانخراط في المجتمع المدني والتقليل من البطالة على الأمد البعيد وكسر دورات الفقر. وقد تشمل هذه المجموعات ذوي الإعاقات والناس القادمين من المجتمعات الريفية والنساء.
  • المساواة الاجتماعية: مساعدة الأفراد على التغلب على عوائق النوع الاجتماعي، والعرق، والعمر، والإعاقة، والمستوى الاجتماعي، والعوائق المؤسسية من أجل التعلم والعمل عبر توفير دعم مختص. ويلعب الإرشاد حول التعليم والعمل دوراً مهماً في مساعدة الناس على فهم الفرص وكيفية الوصول إليها والحقوق التي تتوفر لهم، وكسب التأييد لقضايا بعض المجموعات الأقل حظاً في سوق العمل بالنيابة عنها مثل ذوي الإعاقات.
  • التنمية الاقتصادية: دعم ارتفاع نسب المشاركة في العمل وتحسين مهارات القوى العاملة من أجل اقتصاد ومجتمع قائمين على المعرفة.
  • تحسين صورة ومكانة مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني: هناك ظاهرة منتشرة في العالم، إلا أنها أكثر حدةً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي انتشار أفكار سلبية ونظرة تقلل من شأن مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني. وعلى الرغم من أن معظم الطلبة الذين يتخرجون من التعليم الأساسي في بعض دول المنطقة ينتقلون إلى التعليم الثانوي التقني أو المهني، فمن المعروف أن هؤلاء الطلبة لا يتخذون هذه الخطوة بناءً على رغبتهم بل بسبب تحصيلهم المتدني، أي أنهم مصنفون على أنهم "ضعيفو الأداء" حتى قبل دخولهم إلى مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني، ومن هنا تبدأ حلقة مفرغة من الأداء الضعيف والجودة المتدنية وضعف الاعتزاز بالنفس. لهذا السبب، يُنظر إلى مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني على أنها تعليم من الدرجة الثانية، ومن الصعب استقطاب الشباب من المستوى المناسب وهو ما يفسر عدم تقدير أرباب العمل لمخرجات هذا النظام في معظم الأحيان. إن حكومات المنطقة مدعوة لتطوير حملات وبرامج شاملة لتغيير هذه الأفكار السلبية.

عدم إجراء دراسات تتبعية لخريجي مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني على نطاق واسع

بالتوازي مع نظام ارشاد مهني شامل، تقوم الكثير من الدول حول العالم بإجراء مكمل لها، إذ تجري دراسات تتبعية تقيّم عملية الانتقال من التعليم إلى العمل بصورة دورية. وبحسب منظمة العمل الدولية، فإن الدراسة التتبعية هي "أداة تقييم الأثر حيث يتم تتبع الأثر على المجموعات المستهدفة بحسب عناصر محددة في مشروع أو برنامج ليصار إلى تحديد المكونات الفعالة وغير الفعالة في المشروع". ويتم تداول هذا المصطلح في العادة لتقييم علاقات الخريجين بعالم العمل، وسوف يجد المختصون والمسؤولون عن التعليم العالي ومراكز التدريب والتعليم المهني والتقني فائدة كبيرة في ذلك، فهذه القطاعات هي أكثر المستفيدين من المسوحات حول التحول من الدراسة إلى العمل. وحتى إن تمتعت مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني بتخطيط جيد، وكانت العملية تشاركية ومبنيّة على معلومات موثوقة، فإن الدراسات التتبعية تساعد واضعي السياسات التربوية والعاملين في الموارد البشرية والمجتمع الأوسع على تحسين ممارساتهم وتقييم الأداء وإن تمت تلبية حاجات الوظائف المطلوبة.

 ويوجد نقص واضح في هذا المجال في معظم دول المنطقة التي يمكنها بلا شك الاستفادة من إجراء هذه الدراسات بصورة فعالة ومعمقة، لأنها تدعم جهودها في توفير التدريب والتعليم المهني والتقني، وبالمحصلة تتقلص الفجوة بين العرض والطلب وتعالج قضية التنافر بين المهارات وسوق العمل. 

الخلاصة

تواجه المنطقة العديد من التحديات الهيكلية والإجرائية لدى معالجتها التنافر بين العرض والطلب على المهارات في سوق العمل إلى جانب الجودة المتدنية والارتباط الضعيف لمحتوى مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني بواقع العمل. وتبين هذه الورقة مدى قلة مشاركة أرباب العمل في عملية إصلاح مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني، ونقص المعلومات الموثوقة حول سوق العمل والتي حتى في حال توفرها لا تحلل بالشكل السليم ولا تستخدم من قبل التربويين في التخطيط، وغياب الوعي بأهمية التوجيه المهني والدراسات التتبعية للطلبة والخريجين، والجودة المتدنية للعملية برمتها والتي تغذي الحلقة المفرغة من ضعف الجودة والأداء والحافز والثقة بالنفس لكل المنخرطين في التدريب والتعليم المهني والتقني. 

 وتشمل بعض التوصيات التي تستحق الأخذ بعين الاعتبار من قبل صانعي القرار وأصحاب المصالح في المنطقة ما يلي: 

  • تشجيع مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني على تقوية الروابط مع أصحاب العمل في كل جوانب عملها، ابتداءً من التخطيط وتقييم حاجات السوق إلى تطوير المعايير الوظيفية والمنهاج وتنفيذ الدورات ودعم الطلبة في إيجاد وظائف مناسبة. كما يجب تقييم هذه المراكز بناءً على درجة انخراط أصحاب العمل فيها، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال شمول أصحاب العمل في الهيئات التنفيذية ومجالس إدارة المدارس.
  • ينتج عن تحسين جودة مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني في كل الجوانب مخرجات أفضل، أي طلبة وأرباب عمل راضين بدرجة أكبر، وفجوة أصغر بين العرض والطلب على المهارات. المطلوب تأسيس نظام سليم وعملي للمؤهلات والشهادات والاعتماد لتنظيم مخرجات هؤلاء المزودين والاعتراف بالتعلم السابق. كما يجب النظر في أطر عمل المؤهلات الوطنية، وتحديد المعايير الوظيفية، ونظام تطوير المناهج، وتدريب المعلمين وضبط الجودة بتعاون وثيق مع الشركاء الاجتماعيين وخصوصاً أصحاب العمل.
  • دعم مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني للطلبة في إيجاد وظائف وهم على مقاعد الدراسة في المدرسة أو الكلية من خلال شبكاتها المحلية مع أرباب العمل ومن خلال إدارة أفضل لعلاقاتها مع القطاعات في التدريب الموجه بناءً على حاجات العمل والتمرين المباشر في منشآت الجهات الموظفة.
  • تقديم مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني خدمات الإرشاد مدى الحياة كجزء من خدماتها للطلبة. يجب أن يبدأ تأسيس أدوات النصح المهني بعمر مبكر حيث يحصل عليها الأطفال حتى قبل دخولهم إلى هذه المراكز، ويستمر في كل الأعمار، وهو ما يتطلب التنسيق مع الوزارات المختلفة والسلطات طيلة فترة حياة المواطنين.
  • في الوقت الذي تتحمل مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني مسؤولية إشراك أرباب العمل في العملية التعليمية والتشبيك معهم كما وضحنا أعلاه، فهناك دور لا يقل أهمية يقع على عاتق أرباب العمل أنفسهم. يجب أن يبادر أرباب العمل بتنظيم أنفسهم ومصالحهم وتشكيل أجسام خاصة بكل قطاع أو وحدات خاصة داخل الاتحادات والروابط القائمة لمعالجة التنافر بين المهارات وسوق العمل، والعمل مع الحكومة والتربويين لحل مشاكل نقص المهارات. يجب أن تدعم الحكومات مأسسة إشراك أرباب العمل في إصلاح مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحوافز، ودعم تشكيل مجالس المهارات لمعالجة قضية الفجوة، بيد أنها يجب أن تكون بقيادة أرباب العمل وليس الحكومة. في هذا المجال، تكون الحكومة هي الميسرة والمسهلة وليست الجهة المنفذة.
  • يجب أن يبادر أرباب العمل للعب دورهم في تحديد المعايير الوظيفية، وتطوير المناهج، وتوفير روابط حقيقية مع القطاعات للطلبة، وإبلاغ المعلمين والمدربين بأحدث الوسائل التكنولوجية في القطاعات.
  • يجب أن يبذل أرباب العمل جهداً لفهم ما يرضي العاملين ويجعلهم أكثر سعادةً، وخلق وظائف كريمة بظروف عمل لائقة ومسار واضح للارتقاء والتقدم ورواتب مناسبة.
  • يجب أن تضع الحكومة مسودة التشريعات ذات العلاقة لتخلق حوافز مالية وغير مالية لأصحاب العمل (القطاع الرسمي وغير الرسمي) ليصبحوا أكثر نشاطاً في عملية تدريب الطلبة بشكل مباشر في منشآتهم، وتدريب المعلمين والمدربين على آخر تطورات القطاع والتكنولوجيا فيه.
  • إجراء مسوحات لسوق العمل بشكل دوري، وضمان تحليل النتائج واستخدامها من قبل التربويين، وبناء القدرات لطواقم عمل وزارات العمل المسؤولة عن هذا الموضوع إلى جانب عقد الجلسات التوعوية لأصحاب العمل حول أهمية المشاركة والتعاون مع مثل هذه المسوحات.
  • وضع المسودة لتشريعات تشجع التحول نحو السوق الحر المفتوح والابتعاد عن الاحتكار، وتمكين مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني لتصبح أكثر استقلاليةً من الناحية المالية والإدارية لتتمكن من خدمة محيطها بشكل أفضل في التدريب والتعليم، شريطة أن تلتزم بالخطط الاستراتيجية المعتمدة وطنياً لهذه المراكز، فلا بد من خلق توازن دقيق هنا.
  • وضع سياسات توظيف سليمة، وتطوير مكاتب خدمات التوظيف العامة لخدمة الخريجين والباحثين عن عمل على حد سواء بشكل أفضل، حيث ستحتاج هذه المكاتب للتعامل المباشر مع المدارس والطلبة والباحثين عن عمل وأرباب العمل.
  • إطلاق حملة وطنية لتغيير الأفكار النمطية وتحسين صورة مراكز التدريب والتعليم المهني والتقني بهدف تشجيع الطلبة والأهالي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والدراما وبرامج تلفزيون الواقع.
  • أثبتت الدراسات التتبعية نجاعتها، وأنها تمرين مفيد للتخطيط السليم واتخاذ القرار. من هنا، يجدر بمراكز التدريب والتعليم المهني والتقني إجراء دراسات تتبعية لخريجيهم بشكل دوري ومشاركة النتائج مع أصحاب المصالح ذوي العلاقة.