إيلونا ريجولسكي، الباحثة بالمتحف البريطاني أثناء إحدى الأنشطة التي تستهدف إشراك أهالي قرية شُطب في المشروع البحثي

يعد التراث الثقافي المصري الممتد عبر التاريخ بكل تنوعه وثراءه تراثًا للإنسانية جمعاء. الأمر الذي يجعل من صون ذلك التراث وكذلك تنميته بطرائق مستدامة في مقدمة اهتمامات الدولة المصرية، لما يرتبط بذلك من آثار ثقافية واجتماعية وكذلك اقتصادية. وفي ظل الدور الرئيسي الذي يلعبه البحث العلمي في تحقيق ذلك الأمر، يستهدف صندوق نيوتن-مشرفة تنمية التراث الثقافي المصري كأحد أولوياته لدعم البحث العلمي والابتكار في مصر. نتناول فيما يلي أربع قصص ملهمة لباحثين وباحثات يسعون لحماية وتطوير التراث الثقافي المصري على أصعدة عدة. وذلك من خلال الحفاظ على القرى الأثرية بصعيد مصر وتنميتها بشكل مستدام، وتطوير تقنيات رقمية للحفاظ على الأبنية الأثرية، واستخدام الواقع المعزز لإثراء السياحة المصرية، وبناء قدرات الباحثات المصريات في مجال التراث الثقافي.

الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز استدامة القرى الأثرية

على مسافة 5 كيلومترات جنوب مدينة أسيوط المصرية، تقع قرية شُطب الأثرية. القرية التي أقيمت على أنقاض مدينة "شاشوتيب"، التي كانت مركزًا إقليميًا وعاصمة للمقاطعة الحادية عشر بمصر العليا حوالي العام 2000 قبل الميلاد. الحفاظ على التراث الثقافي في صعيد مصر -تحديدًا في قرية شُطب- بطرق مستدامة هو هدف إيلونا ريجولسكي، الباحثة بالمتحف البريطاني من خلال مشروعها البحثي المشترك المدعوم من صندوق نيوتن-مشرفة.

تمكن الفريق البحثي المصري البريطاني من رسم خريطة التراث المصري بمنطقة أسيوط بهدف حفظ ذلك التراث وتقديمه للعالم. وذلك من خلال استعراض تاريخ عدد من المناطق الأثرية متعددة الطبقات خلال الفترة ما بين عام 3000 قبل الميلاد ووقتنا الحالي، بجانب دراسة ردود الأفعال الخاصة بالمجتمعات المحلية القاطنة بتلك المناطق تجاه تراثهم الثقافي؛ حيث كانت قرية شُطب الريفية نموذجًا لتلك الدراسات.

توضح ذلك ريجولسكي: "عمل المشروع على تحقيق أهداف عدة، لعل أهمها إعادة بناء تاريخ قرية شُطب الممتد عبر 4500 عام، الذي لا تتوفر أي معلومات أثرية عنه. بالإضافة إلى الحفاظ على جودة العمارة المحلية والواجهات التاريخية بها.".

 لم يكتف المشروع الممول من صندوق نيوتن-مشرفة بنشاطه البحثي الأكاديمي فحسب، حيث استهدف تمكين أهالي القرية وإشراكهم في أنشطته، والعمل على تعزيز الاهتمام بالتراث الثقافي للقرية بين قاطنيها. الأمر الذي تم عبر تقديم مجموعة متنوعة من ورش العمل والتدريبات والفعاليات الأخرى. تضمنت تلك الفعاليات - بجانب ورش العمل والتدريبات تقديم جولات للشباب لرسم المعالم الخاصة بالمباني العامية في القرية، وتنفيذ أنشطة فنية تهدف إلى تصميم مواد دعائية لترويج القرية كمزار سياحي، بالإضافة إلى فعاليات للسرد القصصي من أجل حكي القصص المصرية القديمة.    

كما تمكن مشروع ريحولسكي من إصدار سلسلة من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية حول التراث الثقافي للقرية، إلى جانب تطوير مجموعة من الأدوات التفاعلية، وأيضًا إنتاج ثلاثة أفلام من بينهم فيلم "هل سمعت عن شُطب؟" الذي وصل إلى القائمة القصيرة لإحدى مسابقات الأفلام.  كل تلك المجهودات تتأتى في إطار التنمية المستدامة وفقًا لرؤية مصر 2030 وكذلك أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. فالمشروع البحثي يهدف إلى بناء مدن ومجتمعات محلية مستدامة عبر ترميم عمارة قرية شُطب المحلية، وكذلك تطوير التعليم من خلال مشاركة نتائج الدراسات الجديدة من أجل زيادة الوعي بالتاريخ والتراث.

تقنيات رقمية للحفاظ على الأبنية التراثية

الحفاظ على التراث الثقافي المصري مسئولية كبرى يضطلع بها كافة أطياف المجتمع وفي مقدمتهم العلماء والباحثون. وهي المسئولية التي حملها على عاتقه محمد مرزوق، الأستاذ بجامعة القاهرة المصرية عبر مشروع بحثي بالتعاون مع جامعة ميدلسكس البريطانية. المشروع الممول من صندوق نيوتن-مشرفة يستهدف تطبيق تدابير الاستدامة اللازمة للحفاظ على الأماكن التراثية المصرية. وذلك من خلال تطوير نظام متكامل يسهم في بناء خطط للحفاظ على الأبنية التراثية، والفهم الدقيق لتلك الأبنية من أجل الحفاظ على حالتها، والتأكد من دقة قرارات إعادة التصميم الخاصة بها قبل تنفيذها على أرض الواقع. حيث تمكن مرزوق من تطوير إطار عمل لترميم المباني التراثية عبر الاستعانة بعدد من التقنيات الرقمية، على رأسها النمذجة المعلوماتية للأبنية التراثية. حيث يتم استخدام عدد من الوسائل التكنولوجية من أجل إنشاء نماذج رقمية للخصائص المادية والوظيفية للمباني.

يوضح محمد مرزوق ذلك: "لقد طورنا إطار عمل متكامل يجمع بين تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد باستخدام الليزر، النمذجة المعلوماتية للأبنية التراثية، والواقع الافتراضي؛ وذلك من أجل تكييف المباني الأثرية للظروف البيئية والعمرانية، والإسهام في إعادة استخدامها من جديد."

لم يكتف المشروع البحثي بذلك، إذ اعتمد على إجراء تحليل بيئي من أجل تقييم كفاءة الحالة الحالية للأبنية التراثية، بجانب تحديد الحالة المستهدف الوصول إليها مستقبلًا. كما أجريت استبيانات عدة –بالاعتماد على تقنية الواقع الافتراضي- لتوقع تفضيلات المستخدمين المحتملين وسلوكياتهم، مما يضمن إعادة تأهيل المباني التراثية بأفضل طرق ممكنة. 

كل ذلك في إطار تحقيق التنمية المستدامة للتراث المصري، كما يبين محمد مرزوق: "تتوافق رؤية المشروع مع الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، وهو الحرص على تطوير المدن والمجتمعات المحلية المستدامة عبر تعزيز الجهود الرامية إلى حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي." بالإضافة إلى ذلك، أشار مرزوق إلى أن التعاون المكثف والتواصل المتميز بين المؤسسات العلمية المصرية والبريطانية عبر المشروع البحثي قد ساهم في تطوير وتعزيز قدراته العلمية والعملية على حد سواء. الأمر الذي كان له أثر بالغ في مسيرته كباحث يضطلع بحماية التراث الثقافي المصري.

قنية الواقع المعزز لإثراء السياحة المصرية

"أسعى إلى أن يعيش زوار المتاحف في عالم مشابه لما رأيناه جميعًا في فيلم "ليلة في المتحف" (Night at the museum)، ليحصل على تجربة لا تنسى!".

هذا هو ما يسعى إلى تنفيذه رامي حمادي، الباحث بجامعة حلوان المصرية بالمتاحف المصرية عبر مشروع بحثي بالتعاون مع جامعة هدرسفيلد بالمملكة المتحدة.

"عين المتحف" هو نتاج مشروع حمادي البحثي المدعوم من صندوق نيوتن-مشرفة، وهو يهدف إلى تطوير تجربة الزوار بالمتاحف المفتوحة والمغلقة وتعزيز انغماسهم في تلك التجربة. حيث تقوم فكرة المشروع على بناء نظام تصوير مجسم (هولوجرام) يتيح لزوار المتاحف مشاهدة الشخصيات التاريخية، والتعرف على التراث الثقافي المصري، والاستماع إلى قصص الحضارة المصرية وأحداثها التاريخية، عبر العيش في العالم الخاص بتلك الأحداث.

يوضح رامي أن ذلك يتم بالاعتماد على تقنيات الواقع المعزز التي تتيح المزج بين البيئة الواقعية الموجود بها السائح، وبين الصور المجسمة التخيلية في نفس الوقت. ليتمكن بذلك زوار المتاحف عند ارتداء أجهزة نظارات الواقع الافتراضي من دخول عالم واقعي-افتراضي يحوي دليل هولوجرامي يقدم صورًا مجسمة يستطيع الزوار التفاعل معها بشكل واقعي، الأمر الذي يحول الزيارة إلى تجربة تفاعلية لا تنسى. من خلال المشروع أعاد رامي حمادي تمثيل العالم الحربي الخاص بالدولة المصرية القديمة مستعرضًا مجسمات بصرية للجنود والعجلات الحربية للزوار، كما قدم لهم فرصة اختبار حياة علماء الآثار ومستكشفيه مدة يوم واحد من أجل البحث عن الكنوز داخل المتحف.

"كما أعكف حاليًا على الدمج بين تقنيتي الواقع الممتد والذكاء الاصطناعي بهدف استغلالهما في المتاحف، وذلك لإثراء تجربة الزائرين وزيادة تفاعلهم في أثناء زياراتهم، بدلًا من الاعتماد على التسجيلات الصوتية المسجلة مسبقًا." كما يوضح حمادي.

لا يتوقف هدف هذا المشروع البحثي على تطوير البحث العلمي بمجال التراث الثقافي فحسب، إذ يمتد ليشمل المساهمة في تطوير المتاحف المصرية المتنوعة. مما سيساعد على جذب المزيد من السياح حول العالم، الأمر الذي يعد ذو أهمية خاصة للاقتصاد المصري وتحقيق نمو مستدام.

بناء قدراتهن في إدارة التراث الثقافي

خارج جدران المعامل وبين رمال الصحراء، تقود جوان رولاند، المحاضرة في علم الآثار بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة فريقا من الباحثات والباحثين لإماطة اللثام عن جزء منسي من تاريخ مصر. حيث يهدف المشروع البحثي المشترك بين جامعة إدنبرة والجامعة الأهلية الفرنسية في مصر إلى إعادة اكتشاف عصور ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر في مصر، بجانب بناء القدرات في مجال إدارة التراث الثقافي المتعلق بتلك الفترة المنسية. المشروع الممول من قبل صندوق نيوتن-مشرفة ساهم في تمكين المرأة في ذلك المجال الذي كان يعد حكرا على الرجال إلى وقت قريب.

توضح ذلك رولاند: "من خلال مشروعنا تم تمكين النساء كأعضاء على قدم المساواة كمدربات ومتدربات في هذا المجال. فمشاركة النساء من جميع الأعمار ومختلف المراحل المهنية أفادت الجميع، وذلك من خلال تقديمهن لآراء وخبرات متنوعة، والتي سيستمرون في تقديمها بمجالات البحث وإدارة التراث في مصر."

رامي حمادي، الباحث بجامعة حلوان المصرية أثناء عرضه لمشروعه البحثي حول استخدام تقنيات الواقع المعزز لإثراء تجربة زوار المتاحف المصرية
المشاركات في برنامج التدريب الميداني بموقع نقاده الأثري ©

J.F.L. van Wetering

تؤكد رولاند أن بناء القدرات هو أحد الأركان الأساسية لهذا المشروع بجانب الشق البحثي. فقد قام المشروع بتوفير برنامج للتدريب الميداني للعاملات والعاملين بوزارة الآثار المصرية في ربيع عام 2019، حيث تم تدريب 30 شخصا على أحدث الطرق في استكشاف وحماية المواقع الأثرية التي تنتمي لعصور ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر. وتأمل رولاند في أن تنتقل تلك المعارف والخبرات من المتدربين إلى أقرانهم لتطوير إدارة التراث الثقافي في مصر.